يعتبر الأكاديمي السوري حسام الدين درويش من أهم الباحثين في قضايا الهيرمينوطيقا (علم التأويل) والمهتمين أيضا بالفلسفة السياسية وفلسفة الاعتراف. وفي هذا الحوار معه يقدم درويش وجهة نظره في قضايا فكرية مختلفة تشكل أساسا لا مهرب منه في العالم العربي حاليا.
نبدأ حديثنا مع حسام الدين درويش حول “ثنائية المعرفة والأيديولوجيا”، وإن كان ثمة إشكالية حقيقية بين الفكر والممارسة الفعلية، وهل تكون المعالجة بنقد الذات أم بنقد المفاهيم ومراجعتها؟ يقول لـ”العرب”، “هناك إشكالية دائمة بين الفكر والممارسة، بين المعرفة بوصفها وصفا وتحليلا لما هو كائن، والأيديولوجيا بوصفها تجسيدا لما نرغب في أن يكون.
وفي مثل هذه الحالات، تنوس الحلول بين تكييف فكرنا وتكييف واقعنا لتحقيق التناسب والانسجام بين الطرفين. وعلى هذا الأساس يمكن فهم الشعار الرواقي الشهير ‘إن لم يكن ما تريد، فأرد ما يكون‘”. ويضيف “لسنا مضطرين، عموما أو غالبا، إلى الاختيار بين نقد الذات ونقد المفاهيم ومراجعتها، فثمة حاجة مستمرة إلى القيام بالأمرين. وقد يمتزج النقدان، عندما نقوم بمراجعة نقدية للمفاهيم التي نتبناها نظريا، و/أو نستند إليها في ممارساتنا العملية”.
ونسأل درويش إن كان اتباع منهج معين لنقد الفكر السائد معيبا أو ينقص من قيمة الباحث، ليجيبنا “المنهجية أو اتّباع منهج ما، في الفكر والبحث، أمر إيجابي عموما، من حيث المبدأ، وقد يكون ضروريا في سياقات كثيرة، أكاديمية وغير أكاديمية. ما هو معيب أو سلبي في هذا الخصوص، هو عدم إدراك حدود المنهج وحدود المعرفة التي ينتجها هذا المنهج.
المعرفة والأيديولوجيا
فدون مثل هذا الإدراك، تغدو المعرفة أحادية ووثوقية أو دوغمائية وفقيرة، في الوقت نفسه. وعلى هذا الأساس، أرى ضرورة أن يكون النقد على الطريقة الكانطية الريكورية، المتمثلة في إظهار مشروعية الموضوع المنقود، وحدود هذهالمشروعية، في الوقت نفسه”. أما فيما يخص مسألة السيطرة على الأيديولوجيا أو عقلنتها، فهو لا يعتقد أنه يمكننا أو ينبغي لنا السيطرة على الأيديولوجيا، (سيطرة كاملة).
فيقول “ما ينبغي السعي إليه، من وجهة نظري، هو الحد من سيطرة الأيديولوجيا علينا، ووعي جوانب أو أبعاد تلك السيطرة المحدودة، والتفاعل معها بطريقة تقلل من سلبياتها، وتدعم إيجابياتها، قدر المستطاع. وأعتقد أن الحاجة إلى العقلنة ضرورية جدا عموما، على أن تكون تلك العقلنة بالمعنى الفيبري، بالدرجة الأولى، وهو المعنى المتمثل في إحلال ما هو عقلي ومعقول محل ما هو تقليدي وتراثي؛ وليس بالمعنى الفرويدي، المتمثل في البحث عن مبررات وأعذار لتسويغ رغباتنا وتوجّهاتنا المعيارية الخاصة، بغض النظر عن مدى معقوليتها”.
وركز درويش على “التشابك الحاصل بين المعرفة والأيديولوجيا، بين الوصف والتقويم، في الفكر السوري المعاصر”، مبررا ذلك قائلا “لأنني رأيت أن هذا التشابك ذو حضور قوي وإشكالي ومؤثر جدا في الفكر عموما، وفي الفكر العربي والسوري خصوصا. وبعيدا عن الزعم بإمكانية خلو المعرفة من الأيديولوجيا، والزعم المقابل بأن كل فكر هو أيديولوجيا، شددت، في خطوة أولى، على إمكانية التمييز بين المعرفة بوصفها وصفا أو تحليلا لما هو كائن، والأيديولوجيا، بوصفها تعبيرا عمّا ينبغي، من وجهة نظرنا أن يكون. وانطلاقا من هذا التمييز، حاججت، في خطوة ثانية، بضرورة وجود علاقة جدلية إيجابية بين المعرفة والأيديولوجيا. وأطروحتي الأساسية، في هذا الخصوص، هي أن “المعرفة دون أيديولوجيا عمياء، والأيديولوجيا دون معرفة جوفاء”.
تسميته للموضوع ﺑ"الفكر السوري المعاصر" فيها فصل عن الفكر العربي، وهنا نتساءل معه إن كان الأمر مختلفا، وأين يكمن وجه الاختلاف، أم أن ما يختلف هو التناول؟ يجيبنا درويش “أرى، مثلما فعل محمد عابد الجابري، أنه ينبغي ألا يمنعنا التوجه العربي أو العروبي من إدراك التمايزات بين الأطراف العربية المختلفة. وعلى هذا الأساس يكون التوجه لدراسة الفكر في سياقاته المحلية أو القطرية، في سوريا أو مصر أو الكويت أو تونس، مكملا وشرطا لدراسته في حالته العامة، بوصفه فكرا عربيا”.
ويتابع “على الرغم من وجود الكثير من القواسم المشتركة بين الوضع السوري وأوضاع البلاد الأخرى ذات الأغلبية الناطقة بالعربية، ثمة اختلافات وخصوصيات في كل بلد ينبغي للبحث إدراكها وإبرازها وأخذها في الحسبان. وتوجد تلك الاختلافات في الواقع، بالدرجة الأولى. وينبغي لنا الإقرار المعرفي بهذا الاختلاف، بغض النظر عن توجهاتنا الأيديولوجية أو المعيارية”.
نتطرق مع درويش لمسألة تفسير النص الديني والتعامل معه وترجمته وتأويله، ونسأله من يرى أن له الأحقية في الاجتهاد في ذلك، ليجيبنا بأنه يعتقد أنه من المنظورين المنطقي النظري والديني الإسلامي لا يحتاج المؤمن المسلم إلى أيّ واسطة أو وساطة في علاقته مع ربه. وانطلاقا من ذلك، يكون لكل شخص يتوجه إليه النص الديني الحق المبدئي في تفسير ذلك النص وتأويله والتعامل معه. ويمكن بالطبع لأيّ شخص أن يلجأ إلى أشخاص آخرين، في هذا الخصوص، لكن ينبغي أن يتم ذلك على أساس الاعتراف الطوعي، لا الإكراه القسري. ففي النهاية، المسؤولية فردية، وهي تشترط الحرية بالضرورة.
الدين والإنسان والعلمانية
أما عن صراع التاريخي والديني إن كان حقيقة أو ادعاء، فيرى درويش أنه، من حيث المبدأ، ثمة توتر دائم بين الديني والتاريخي، من حيث أن الأول ينزع نحو الثبات وعدم التغير، في حين أن ماهية التاريخ تكمن في التغير والصيرورة تحديدا. لكن البت في العلاقة المتوترة بين هذين الطرفين المتمايزين يخضع لعوامل سياسية واقتصادية مختلفة، ويمكن لهذه العوامل أن تحوّل ذلك التوتر إلى صراع، في بعض السياقات، كما يمكن أن تجعله “نسيا منسيا”، في سياقات أخرى.
أما عن الملفات التي يجب علينا فتحها فيما يخص الأديان، فيقول “لعل الملف الأول والأكثر أهمية هو سؤال ‘السلطة‘. والغرض، هنا، هو مناقشة مدى ‘غياب’ المشروعية المبدئية لأي طرف يريد أن يفرض رؤيته الدينية على الآخرين. ويرتبط بهذا الملف ملف الحريات الفردية، فالأديان ذات توجه جماعاتي عموما، لأنها نشأت في زمن كانت الجماعة هي الوحدة الاجتماعية الأساسية أو الأهم. ولم تكن الفردية والحريات المرتبطة بها حاضرة بقوة حينذاك”.
ويستدرك “لكن منطق التاريخ والأخلاق والدين في العالم المعاصر يفرض الإقرار بفردية كل شخص وبامتلاكه لحقوق فردية أساسية، بوصفه إنسانا وفردا، بغض النظر عن أيّ انتماءات أخرى. ويمكن تكثيف أهم الملفات المهمة في مسألة ‘الأخلاق‘ و‘العلاقة مع الآخر‘: ما الأخلاق التي تتضمنها التفسيرات والتأويلات المنسوبة إلى الدين؟ وإلى أيّ حد تتضمن تلك الأخلاق إقرارا بالمساواة الأخلاقية والإنسانية المبدئية، بين الناس، بغض النظر عن انتماءاتهم الجنسية أو القومية أو الدينية أو المناطقية أو الاقتصادية أو السياسية … إلخ؟ فالآخر، هنا، قد يكون المرأة، أو المسلم الآخر، أو غير المسلم، أو غير المتدين.. إلخ”.
ويقر الكثيرون بأن المناهج التعليمية في المدارس العربية تحتاج إلى إعادة مراجعة وتطوير، وهو ما يؤكده درويش الذي يرى أن الحاجة إلى مراجعة المناهج وتطويرها مسألة بديهية يصعب تصور وجود اختلاف حولها. فحتى لو كانت تلك المناهج كاملة ومكملة فإن مرور الزمن يجعلها بحاجة إلى المراجعة والتطوير.
هناك من يقول إن العلمانية قد فشلت في العالم العربي فشلا ذريعا، وهناك من يرى أنها تتعارض مع مشروع الدولة المدنية. يعلق الباحث السوري على ذلك “أنا ممّن يرون أن وجود العلمانية في العالم العربي أكبر وأقوى بكثير مما يظن عموما، ومما يمكن أن يدركه ويقر به الأيديولوجيون من أنصار العلمانية وأعدائها. والعلمانية التي أتحدث عنها، هنا، لا تتنافى مع الدين أو تتعادى معه، بل هي تلك التي تتمايز عنه دون انفصال، وتتكامل معه دون انصهار. ولعل مفهوم الدولة المدنية يبين بوضوح كيف يمكن تجاوز هذا الصراع الزائف أو المؤذي بين الديني والعلماني، من حيث أن المدني ديني أو إسلامي من ناحية أو منظور، وعلماني من ناحية أو منظور آخر”.
حسام الدين درويش:
باحث سوري مقيم في ألمانيا، حاصل على شهادة الدكتوراه من قسم الفلسفة بجامعة بوردو 3 في فرنسا، تخصص “الهيرمينوطيقا ومناهج البحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية”. وهو محاضر زائر في قسم الدراسات الشرقية بكلية الفلسفة بجامعة كولونيا في ألمانيا، وباحث مشارك في مشروع “دراسة في القوة التفسيرية” بجامعة ديسبورغ- إيسن، ألمانيا.
هو مهتم كذلك بالفلسفة السياسية وفلسفة الاعتراف، وبإشكاليات وقضايا الفكر العربي والإسلامي الحديث والمعاصر. نشر كتابين باللغة الفرنسية، وكتابا باللغة العربية (في موضوع الهيرمينوطيقا). نشر أيضا عددا من الأبحاث والدراسات المحكمة في مراكز البحث والمجلات العربية، وعشرات المقالات في المواقع الإلكترونية والمؤسسات الإعلامية والثقافية العربية.