الأحد - 12 ديسمبر 2021 - الساعة 02:17 ص
الجرأة في السياسة تتطلب مقدارا عاليا من مشاعر الثقة. كما أنها تتطلب قراءة صحيحة للواقع، لكي يمكنها أن تميّز بين ما هو عابر وبين هو دائم؛ كما بين ما يمكن تحقيقه على المدى المنظور، وبين ما يمكن إرساؤه للمستقبل.
أحد أول استنتاجات، أو دروس، السياسات الخارجية على مر العصور، هو أن الخصومات بين دول الجوار لا بد في النهاية من أن تنتهي إلى تصالح تمليه حقائق الجغرافيا التي لا مفر منها. يمكن للحروب أن تنشب، إلا أنها هي الأخرى لا بد وأن تنتهي إلى تعايش من نوع ما، قبل أن يُرسي التعايش ظروفا أفضل لتبادل المصالح.
الدرس الثاني، هو أن النزاعات تحتاج إلى لغة تخاطب وإلى أرضية تجعل منها لغة مسموعة.
الإمارات بتحركها نحو إسرائيل وسوريا وتركيا وإيران، قدمت درسا ثالثا، يقول إنه حتى وإن كان هناك ما يمكن أن نختلف فيه أو عليه، فإنه بالإمكان تنمية الجانب الآخر من العلاقات، لكي يمكن من خلال ما تقيمه من تفاهمات أن تجعل الاختلاف أقل وطأة وأقرب إلى العثور على تسوية.
البدء من “تصفير المشاكل” مع كل الجوار الإقليمي إنما يعني البحث عن لغة مشتركة وأدوات للتعاون وتبادل المصالح من جهة، والسعي من جهة أخرى للفصل بين ما يمكن تحاشيه الآن وبين ما يمكن البناء عليه لتنمية مصالح مشتركة تجعل العودة إلى قضايا الخلاف أيسر حلا.
لا يوجد أعقد من العلاقات مع إسرائيل في هذا الجانب. ولكنّ اتفاقا أتاح قبل كل شيء وقف أعمال الاستيطان في الضفة الغربية، كان بمثابة خطوة أولى لوقف التداعي الذي تسبب به الجمود في عملية السلام.
وبالاتفاق الذي تمّ التوصل إليه أصبح من الممكن لعملية السلام أن تتحرك وأن تضفي ثقلا على حقيقة أن إسرائيل يمكن أن تستفيد من علاقات السلام مع الدول العربية أكثر بكثير ممّا تجنيه من احتلال الأراضي الفلسطينية.
لم تقدّم الإمارات تنازلا، ولا بقيد أنملة، عن أيّ حق من الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، ولم تزد أو تنقص على ما زادوا فيه أو أنقصوا. ولكن ما حصل هو أن العثور على لغة تخاطب، وبناء مصالح مشتركة يوفر الآن للإسرائيليين القدرة على فهم أن وجودهم الذي لم يعد موضع سجال، هو نفسه بات يستوجب منهم النظر إلى حقوق الفلسطينيين المشروعة لتكون بعيدة عن السجال أيضا.
شيء من قبيل القول: تعالوا لنرى ما يمكن أن نفعله معا لشعبينا، ومن ثم لنرى كيف أن التنازع على الأرض أو على حقوق الفلسطينيين بات أمرا قابلا للعثور على حلّ له.
أن تكسب كل الأرض، ويظل وجودك كله موضع سجال، أخطر بكثير من أن تقدم التنازلات المطلوبة لكي تكسب الاعتراف بحقك في الوجود، وتكسب معه الحق في إقامة علاقة عمل ومصالح متبادلة.
البدء من هذه الرؤية جعل من “تصفير المشاكل” مع تركيا وإيران وسوريا وقطر أمرا طبيعيا، حتى أنه شكّل نوعا من زلزال دبلوماسي، بدرجة معتدلة، تحت أرض العلاقات العامة في المنطقة ككل.
لا أحد يتعين أن ينسى أن إيران تحتل ثلاثا من جرز الإمارات (أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى)، ولم تفلت مناسبة إقليمية أو دولية دون أن تعيد الإمارات التذكير بالحاجة إلى إزالة هذا الاحتلال ورد الحق إلى أصحابه. فكيف جاز أن تخطو الإمارات تلك الخطوة تجاه إيران؟
الجواب، هو أن استرداد الحق مع “إيران العدو” أصعب بكثير من استرداده مع “إيران الصديق”. فعندما ترى إيران الحالية أو المستقبلية، أن علاقاتها مع الإمارات ومع دول الضفة الأخرى من الخليج أثمن لمصالحها الاستراتيجية من احتلال تلك الجزر، فإنها سوف تجد سبيلا للترجل عن صهوة الموقف المتشدد.
وما يمكن استعادته بعد 20 سنة من علاقات السلام والمنافع المتبادلة، أفضل مما يبقى بمثابة تهديد متواصل لنزاع قابل للانفجار، قد تمتد أضراره لأكثر من 20 سنة.
ذهب الشيخ طحنون بن زايد مستشار الأمن الوطني الإماراتي إلى طهران لكي ينزع فتائل التفجير. ونجح في ذلك. رأت إيران منذ الوهلة الأولى ماذا تعني علاقات حسن جوار وتعاون مع الإمارات وباقي دول الخليج العربي، بالنسبة إلى موقفها الاستراتيجي كله. فاستقبلت اليد الممدودة بيد ممدودة.
تركيا المأزومة باقتصادها وبأدوارها الخارجية المتعثرة، تلقفت اليد الإماراتية كما لو أنها يد معجزة.
لم يختلف شيء بالنسبة إلى موقف الإمارات من سياسات أردوغان في ليبيا، أو في سوريا أو شرق المتوسط. ولكن بدا أن تلك السياسات شيء، وعلاقات التعاون شيء آخر. وهذه العلاقات هي ما يمكن أن يُبنى عليه لإجراء التعديلات التدريجية المناسبة في تلك السياسات.
خطوة من بعد خطوة، ترخو التوترات، وينفتح أفق آخر، ليرى فيه المتنازعون أن لديهم الكثير مما يمكن أن يكسبوه لو أنهم ترجلوا عن صهوة التنازع والتخاصم والعناد.
وكان هناك الكثير مما يمنع استئناف العلاقات مع دمشق. ولكن سوريا بالنسبة إلى محيطها العربي، تظل سوريا في نهاية المطاف. وشعبها لا يحسن أن يبقى ضحية للمشاكل، ومستقبله لا يصح أن يبقى رهينة لها.
لا تقدم الإمارات في علاقاتها مع كل هذه الحزمة من الدول إلا بمقدار ما تقدمها لنفسها أيضا. هذه هي الصفقة الحقيقية لسياسية “تصفير المشاكل”.
وسرعان ما بدا هذا التوجه، وكأنه يأخذ بالمنطقة كلها إلى منقلب آخر للعلاقات فيما بين دولها. فأصبح توجها مغريا للجميع للخروج من دوائر المنازعات إلى دوائر حلها.
حرّكت الإمارات المياه الراكدة، برؤية عاقلة، فتحولت إلى مبادرة يتبناها الخصوم أنفسهم في التعامل مع أحدهم الآخر.
لا أحد يزعم أنه لن تبقى مشاكل. ولكن لا أحد يستطيع أن يتجاهل أن التعامل معها بمقاربة مختلفة يجعلها أيسر على الحل.
تملك الإمارات من قوة الردع ما يكفي أمنها. ولكنها تملك قوة النموذج، كما تملك السعة الاقتصادية التي تجعلها شريكا مثمرا، قادرا على أن يُقيل العثرة، وقادرا أيضا أن يقيم جسورا مع ما يمكن رؤيته من منافع.
النظر إلى مشكلات الحاضر، بعين المستقبل، درس رابع، ربما كان هو الأهم في رؤية الإمارات لنفسها ولعلاقاتها مع الجوار. والتنمية الاقتصادية والاجتماعية هي الهدف الأسمى في النهاية.
غاية السياسة، من وجهة نظر هذه الرؤية، هي خدمة الاقتصاد، وغاية الاقتصاد هي خدمة المجتمع. بمعنى آخر: المسار الاقتصادي هو الأساس.
يمكن أن تنظر إلى مشكلاتك مما أنت فيه. لا أحد سوف يلومك على شيء. ربما لأن هذا هو المألوف والسائد. ولكن أنظر إليها من جهة المستقبل، ولسوف ترى شيئا مختلفا.
وعندما تتوفر لديك القوة والثقة الكافية بالنفس، فمن الخطأ ألا تفعل.