الثلاثاء - 08 أبريل 2025 - الساعة 07:28 م
من يراهن على عبدالفتاح البرهان في مسار التطبيع مع إسرائيل، يغضّ الطرف عن السياق الأيديولوجي والسياسي الذي يتحكم في بنية الجيش السوداني، فهذا الجيش، الذي لا يستوفي أدنى شروط الاحتراف الوطني ولا قيم الدولة الوطنية الحديثة، هو في جوهره نتاج مباشر لانقلاب جماعة الإخوان المسلمين عام 1989، الانقلاب الذي أعاد تشكيل الدولة السودانية لتكون واحدة من أهم حواضن مشروع الإسلام السياسي في المنطقة.
منذ ذلك التاريخ، تحوّلت الخرطوم إلى منصة مفتوحة لحركات الإسلام السياسي العابر للحدود، وصارت نقطة التقاء التيارات الراديكالية من أفغانستان إلى الجزائر، وكان حسن الترابي عرّاب هذا المشروع في السودان، إلى جانب عبدالمجيد الزنداني في اليمن، وسعد الفقيه في السعودية، وهم من كانوا رموزا لما سُمي لاحقا بـ”الصحوة الإسلامية” التي اجتاحت العالم العربي وأعادت إنتاج التخلف بأدوات معاصرة.
بلغ المشروع ذروته في مطلع التسعينات، حين استضاف السودان “المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي” عام 1991، بحضور قادة الحركات الجهادية، في اجتماع يُعدّ النواة السياسية لتنظيم القاعدة في شبه جزيرة العرب وقتها، ووجد أسامة بن لادن في السودان بيئة مثالية لتأسيس شبكاته، في ظل التحالف المكشوف بينه وبين نظام البشير – الترابي.
لكن ما لا يُذكر كثيرا هو دور النظام السوداني، بعد مغادرة بن لادن، في إعادة توجيه “الأفغان العرب” إلى جبهات قتال جديدة، كانت اليمن إحداها، حين ساهمت الخرطوم في نقل المقاتلين إلى عدن عام 1994، لدعم نظام صنعاء ضد الجنوب، يومها، فاستخدمت الخطوط الجوية السودانية كجسر جوي للمقاتلين، في إطار مشروع إقليمي هدفه توظيف الجهاد المعولم لخدمة الأنظمة المتحالفة مع الإخوان.
هذا السياق لا يمكن فصله عن المشهد الحالي، فالجيش الذي يقوده البرهان اليوم هو امتداد لتلك المنظومة، وقياداته نمت وترعرعت في ظلال الفكر الإخواني، وأيّ حديث عن وجود “فصل” بين المؤسسة العسكرية والإرث العقائدي هو تجاهل مفضوح لطبيعة النظام السوداني، الذي ما زال يتغذى من ذات المرجعية الأيديولوجية التي فجّرت المنطقة.
ومع أن البرهان انخرط، ظاهريا، في مسار التطبيع مع إسرائيل عام 2020، ضمن تفاهمات مع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأولى لرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، إلا أن هذه الخطوة لم تكن تعبيرا عن تحوّل إستراتيجي بقدر ما كانت مناورة تكتيكية لشراء الوقت وتخفيف الضغوط الدولية، ولكسب نقاط بعد إسقاط نظام البشير والوعود التي قُدّمت للقوى المدنية بالالتزام بعملية انتقالية سياسية.
اليوم، مع اندلاع الصراع المفتوح بين البرهان وحميدتي، تعود التحالفات الإقليمية لتعيد تشكيل المشهد، فالبرهان يستدير مجددا نحو طهران، مستخدما طائرات مسيّرة إيرانية في النزاع، كما تشير عدة تقارير استخباراتية دولية، كما أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد أبرم في عام 2017 اتفاقية لتشغيل وتطوير ميناء جزيرة سواكن على البحر الأحمر، كل ذلك يعيد السودان إلى المربع الأول: إعادة إنتاج النظام الإخواني بواجهة عسكرية، في لحظة إقليمية تبدو عاجزة عن إدراك حجم الكارثة القادمة.
لكن، لفهم ما يجري اليوم لا يكفي تحليل تحركات الجنرالات، بل لا بد من النظر إلى جذور الأزمة. فالصراع بين الجنرالين البرهان وحميدتي ليس سوى نتاج طبيعي لفشل الدولة المركزية السودانية منذ الاستقلال عام 1956، شأنها شأن العديد من التجارب العربية التي ورثت دولا مركزية ضعيفة، عجزت عن تمثيل تنوعها السكاني، وأخفقت في بناء عقد وطني جامع.
هذا الفشل البنيوي أنتج العشرات من الانقلابات، وحروبا أهلية، ومآسي ممتدة، دفع ثمنها الشعب السوداني على مدار أكثر من نصف قرن، من حرب الجنوب إلى دارفور، ومن القمع السياسي إلى الانفصال الكبير عام 2011، كل محطة كانت تؤكد أن السودان لم يكن يوما دولة موحدة على أسس سليمة، بل مجرد تركيبة مؤقتة تخضع لتوازنات هشّة، سرعان ما تنهار عند أول اختبار.
وما لم تحدث قطيعة جذرية مع هذا النموذج، فإن السودان مقبل على المزيد من الانقسام، وقد تتحوّل حروبه الداخلية إلى ساحات مفتوحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، تماما كما حدث في سوريا وليبيا واليمن، فهذه هي طبيعة الدول المركزية الفاشلة، التي كلما عجزت عن إنتاج حلول، لجأت إلى القمع أو إلى اللعب على حبال الخارج، كما يفعل البرهان اليوم.
مناورته بالتطبيع، ثم انقلابه عليه وتحالفه مع قوى راديكالية، تؤكد أنه لا يملك مشروع دولة، بل مجرد أجندة سلطة، وما يزيد الصورة قتامة هو أن بعض العواصم العربية تدعمه، لا إيمانا بخطّه السياسي، بل نكاية بخصوم آخرين ضمن منطق المناكفة، وهو ذات المنطق الذي حكم بدعم المجاهدين في أفغانستان ضد السوفييت، ثم جلب الكوارث حين عاد أولئك المجاهدون ليؤسسوا القاعدة وداعش وجيوش الخراب.
أما إسرائيل، فحتى وإن قبلت مبدئيا مسار التطبيع مع السودان، إلا أنها تدرك أن التعامل مع نظام يملك جذورا إخوانية – ولو مخفية تحت بزات عسكرية – لن يؤدي إلى سلام مستقر، فإسرائيل التي ترى في طهران والإخوان أعداء وجوديين، لن تغامر بعلاقة إستراتيجية مع نظام مأزوم، قد يتحوّل في أيّ لحظة إلى أداة تهديد لأمن البحر الأحمر خاصة وأن ذراعها وصلت إلى أبعد نقطة في هذا النطاق عندما دمرت ميناء الحديدة الخاضع لسلطة جماعة الحوثيين المدعومين أيضا من إيران.
بل أكثر من ذلك، فإن الساحة السودانية قد تتحوّل إلى منصة حقيقية لتهديد الممرات البحرية، إن استمر هذا العبث الإقليمي في دعم قوى لا تؤمن بفكرة الدولة الوطنية، بل تتعامل معها كأداة مؤقتة لخدمة مشروع أيديولوجي عابر للحدود.
وفي هذا السياق، فإن الحملة الممنهجة التي تُشن ضد الإمارات، والتي كانت من أوائل الدول التي قدمت الدعم السياسي والإنساني للسودان عبر المنصات الدولية في جنيف وجدة، ليست سوى محاولة يائسة لتغطية العجز الداخلي، وتحويل الأنظار عن فشل الطبقة الحاكمة في تقديم أيّ تصور لبناء الدولة أو الخروج من النفق.
الحقيقة الجلية هي أن السودان لا يحتاج إلى إعادة تأهيل النخبة العسكرية – الإخوانية، بل إلى قطيعة حاسمة مع المشروع الذي بدأ بانقلاب 1989، وما زال يُعاد تدويره بأقنعة جديدة، وكل محاولة للالتفاف على هذه الحقيقة، ليست سوى إعادة إنتاج للتاريخ الدموي الذي لم ينتهِ بعد.
من يراهن على البرهان يراهن على مشروع سقط أخلاقيا وسياسيا منذ زمن، لكنه لم يُدفن بعد، والوقت قد حان لدفنه، لا لإعادة تسويقه وتعويمه.
فهل يدرك المراهنون على البرهان أين يكمن الخلل في معادلة السودان وغير السودان؟