الثلاثاء - 21 ديسمبر 2021 - الساعة 02:16 ص
الوضع الراهن في ليبيا مناسب تماما لليبيين. فلماذا يتعيّن إجراء انتخابات؟
الليبيون شعب قرر أن يهزم نفسه. فلماذا تجب نصرته؟ وطالما أن الميليشيات هي وجه آخر لوجوه ليبيا الحقيقية، في تمزّقاتها الجهوية والقبلية، فلماذا يجري السعي إلى حلها أو استبدالها بجيش “وطني” موحد؟
المرتزقة قد يثيرون امتعاض البعض، ولكن منذ متى كانت ليبيا من دون مرتزقة؟ أشكالهم هي وحدها التي تغيرت فحسب. ولكنهم موجودون منذ أن أصبح الليبيون شعبا عاطلا عن العمل، فجاءوا بمرتزقة لكي يقوموا بالعمل بالنيابة عنهم.
الحقيقة قاسية عادة. وجارحة. ولكن إذا كانت هي الحقيقة، فلماذا الكذب على النفس؟
ليبيا لم تعرف الاستقرار منذ يوم الأول من سبتمبر 1969 الذي تولى فيه معمر القذافي قيادة البلاد. وهزمت نفسها منذ ذلك الحين، والمحاولات الرامية إلى بناء “شعب” و”دولة”، سقطت، مرة وإلى الأبد، فلماذا القلق؟ لماذا العناء؟
لا أعرف لماذا ينشغل العالم بهذه الـ”ليبيا”، لكي يحرص على أن تكون “بلدا مستقرا”، ليعيش “شعبها” بأمن وسلام وكرامة؟
المشكلة ليست في الأمن والسلام والكرامة. إذ ما نفعها إذا كان “الشعب” نفسه غير موجود؟
لم يبرز في ليبيا بعد ثورة القذافي، إلا حفنة أفراد مبدعين، مثل إبراهيم الكوني والصادق النيهوم. وكلاهما هرب من ليبيا ليعيش في المهجر. ليبيا كانت بالنسبة إليهما هي الغربة. هي القفر. وهي المهجر.
عذرا إذا كان هناك آخرون. إلا أنهم، بغيابهم عن المشهد، هم المعتذرون. وجدوا أنفسهم في حفرة، فأهالوا على أنفسهم التراب، وكفاهم التشرد في الوطن عيشا غير كريم.
لم تعرف ليبيا في تاريخها الحديث إلا رجلا واحدا، كان له بمعيته رجال قليلون يمتلكون بعضا من صفاته. ولم تنجب غيره. ولا أنجبت مثل رجاله قط. وعندما مات وماتوا، ماتت ليبيا، وتحولت إلى قفر بشري أكثر منها قفر صحراوي.
هو محمد إدريس بن محمد المهدي بن علي السنوسي. أول ملك في ليبيا، وآخر ملك. ليبيا لم تكن لتنجب واحدا آخر. ولا أن تتحمل واحدا يمضي في بناء “الدولة” كما حاول ذلك الرجل أن يفعل.
ولد محمد إدريس في 12 مارس 1890 في زاوية الجغبوب بمنطقة الجبل الأخضر ببرقة. وكان رجل تقوى ومعرفة. ويقال إنه ما كان ليتحدث في موضوع إلا بعد أن يدقق في مراجعه ويتفحص الرأي في مكتبة عامرة ويستشير المحيطين به. اتسم بالتواضع، والمحبة، والزهد. فأحبه الليبيون وأجلوه والتفوا من حوله.
ويقول الحاج أحمد الصالحين الهوني، إنه لما اتهمته محكمة الثورة التي قادها القذافي بأنه كان “يخدع الشعب” من منصبه كوزير للإعلام في آخر عهد السنوسي، ردّ عليها بالقول: “الشعب هو الذي خدعني. كنت أرى الناس يحتفلون بالسيد السنوسي أينما ذهب، ورأيتهم يحيطون به ويقبّلون يديه، ويرفعون سيارته على أكتافهم، فرأيت أنه ملك محبوب، ولم أعرف عنه إلا التواضع والزهد”.
“السيد” الذي لم يرض بلقب الملك، وحّد البلاد، وحاول أن يخلق “شعبا ليبيا” من ولايات برقة وفزان وطرابلس. وكرّس كل ما توفر لليبيا، التي بدأت كثاني أفقر بلد في العالم، لتقيم من عائدات النفط مشاريع إعمار ومراكز تعليم وصحة وخدمات أخرجت الليبيين من ربقة الفقر والتخلف.
أثرُ حركة الإعمار ومشاريع التنمية التي بدأها السنوسي استمر لعدة سنوات من بعده، بحكم الآليات التي تفرضها أعمال البناء. وذلك إلى ما بعد فورة أسعار النفط في العام 1973، التي كانت أول منعطف حوّل الليبيين إلى شعب يمارس أنماطا شتى من البطالة المقنعة، إلى يوم الناس هذا. فالمال، أغناهم عن العمل، حتى أن ليبيا، التي عرفت أول المشاريع الزراعية الكبرى قبل الفورة النفطية، صارت تستورد حتى البيض من الخارج.
ومع تراجع مستويات التعليم، بدأ الجهل يغزو البلاد، حتى أصبح أعظم ما لديها من كتب هو “الكتاب الأخضر”، ليجسد مستوى السطحية الثقافية التي عمت البلاد، قبل أن ينحدر فيها كل شيء، بثقافة الشعارات الفارغة التي حوّلها القذافي إلى خلاصة بوسعها أن تحسم كل نقاش، حول أي قضية.
“المرأة أنثى. والرجل ذكر”. و”المرأة تحيض، والرجل لا يحيض”. و”الدجاجة تبيض، والديك لا يبيض”. ثقافة من هذا النوع هي التي امتلكت السيادة. ولم تسقط الثقافة وحدها. ولكن سقط التعليم أيضا. وهو ما ظل سائدا لأكثر من أربعين عاما. فغلب الانحطاط الذهني على كل شيء. حتى جاء إلى السلطة أشخاص من قبيل السائد اليوم، وحتى أصبحت ليبيا نهبا للميليشيات، التي تتبع كل منها عائلة أو منطقة أو جهة. وحتى أصبح نوابها يباعون ويشترون بالمال، على مرأى ومسمع من ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة، فتحار المسكينة كيف تقنعهم بالعمل لمصلحة بلادهم أو كيف يأخذون مستقبل شعبهم بالاعتبار.
أميركية مثل ستيفاني ويليامز، ظلت أكثر وطنية وإخلاصا لليبيا من كل أولئك “الليبيين” الذين لم يجيدوا عملا أكثر من قدرتهم على إثارة الإحباط في نفسها. وعادت لتمارس دورا، لا أعرف من أجل ماذا. أهو الجسارة في مواجهة الميؤوس منه؟
الثورة الثقافية التي أراد النيهوم أن يقودها في بلاده فشلت، لأن ملك ملوك المثقفين ما كان ليسمح بأن تعلو ثقافة على ثقافته.
والقفزة التي قادها الكوني في الرواية العربية، لم تكن إلا شيئا عجيبا في مدى مفارقته لإرث الانحطاط العام، حتى ليصح القول في النهاية إن الزهور يمكن أن تينع على ضفاف مستنقع.
الرجل الذي قاد المقاومة ضد الاحتلال الأجنبي، بشكليه العثماني والإيطالي، إنما يرثه اليوم رجال يستجلبون الاحتلال بأنفسهم. ومستوياتهم رثة إلى درجة أن العربية تبدو لغة أجنبية بالنسبة إليهم.
أولئك هم رجال ليبيا اليوم. إنهم من تلك الطينة التي لا ينطبق عليها إلا الوصف: “الرجل ذكر، المرأة أنثى”.
هل يملكون تعريفا آخر؟ هل تتسع مداركهم إلى ما هو أبعد من ذلك؟
في 25 نوفمبر 1950 أُعلن السنوسي استقلال البلاد، وانتخب ملكا بموافقة جميع العشائر في 24 ديسمبر 1951.
يوم 24 ديسمبر الجاري، كان يفترض أن يكون هو يوم الانتخابات لاختيار رئيس للبلاد. ولأنه يوم ذكرى مجيدة في تاريخهم الحديث.
هذا اليوم لن يحل. أهانه “الليبيون”. مرّغوه بوحل انقساماتهم وصراعاتهم وتنافسهم الرخيص على السلطة. لأنهم هم أنفسهم باتوا مُستملكين وخاضعين لكل مبتذل ورخيص. وصنعوا بأيديهم الذل الذي يُولّي عليهم أفّاقين ودجّالين من نمط الذين يمارسون الحكم فيهم.
ليبيا نفسها لم يعد لها وجود. ولأن “الشعب الليبي” لم يبق منه إلا الخداع. ولم يبق فيه من الرجال إلا الذكور الذين إذا أرادوا أن يقولوا شيئا تعثروا بأول جملتين.
برحيل يوم 24 سبتمبر عن استحقاقاته، ترحل ليبيا ويرحل الليبيون، ليكونوا، وتكون بلادهم، شيئا بلا معنى، ولا تاريخ ولا تعريف.