كتابات وآراء


الأربعاء - 16 أبريل 2025 - الساعة 12:37 م

كُتب بواسطة : هاني سالم مسهور - ارشيف الكاتب



في الشرق الأوسط، حين تهدأ الجبهات فجأة ويبدأ الخصوم في التودد للوسطاء، فاعلم أن الكأس قد رُفع، لا ليُشرب منه نخب النصر، بل ليُقدَّم على مضض مثلما شُرب في لحظة تاريخية مريرة، فما بين الجولة الأولى من مباحثات مسقط، وترتيبات الجولة الثانية في أوروبا، برزت مؤشرات لا تخطئها عين مراقب، حماس التي تعالت على المبادرات لأشهر طويلة، أعلنت فجأة قبولها بلجنة مدنية لإدارة غزة. صيغة مشذبة لانسحاب من الخطوط الأمامية دون إعلان صريح عن الهزيمة، لكنها كافية لتفكيك حالة التحدي التي تصدرت خطابها منذ 7 أكتوبر، وبما لا يترك مجالاً للشك أن القرار اتُّخذ في مكان أبعد من غزة، وتحديداً في طهران.

إيران التي طالما رفعت شعارات “الصمود والمقاومة” أمام الضغوط الأميركية، دخلت طاولة المفاوضات بعد أن فُتحت عليها كل الجبهات دفعة واحدة، فخلال أسابيع قليلة، تحركت حاملات الطائرات الأميركية، ووجهت ضربات جوية مركزة للحوثيين في اليمن، بينما زار المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف موسكو واجتمع مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأربع ساعات متواصلة، في رسالة تقول إن واشنطن لا تترك شيئاً للصدفة، وأن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يدير المشهد الإقليمي بأدوات الردع القصوى تماماً كما توعد في حملته الانتخابية ، بوتين نفسه، وسط استنزافه في أوكرانيا، لم يعد يملك رفاهية منح إيران مظلة مواجهة، وبالتالي، فإن طهران بدأت تكتشف أنها أصبحت وحيدة في ساحة تزداد اشتعالًا.

ولأن الإيرانيين يفهمون كيمياء اللحظات الحرجة، فقد استدعوا من ذاكرتهم العبارة التي قالها الخميني في نهاية الحرب مع العراق “أقبل وقف إطلاق النار كما أقبل تجرع كأس السم” واليوم، لا يبدو أن خامنئي شرب الكأس بالكامل، بل ارتشف نصفه فقط، فهو لا يريد إعلان الاستسلام الكامل، بل يقايض أدواته واحدة تلو الأخرى ليحفظ رأس النظام، ولو على حساب وكلائه، بدأ التفكيك من غزة، ولاحقًا من الضاحية، ثم سقط جدار دمشق، وربما لاحقًا من صنعاء، ما دام الثمن هو تجنيب النظام الإيراني الضربة الساحقة.

ولكنّ القصة الحقيقية لا تُروى اليوم في طهران وحدها، بل تتفجر أسئلتها في تل أبيب، فرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي قضى سنوات في تعهّداته بعدم السماح لإيران بامتلاك القنبلة النووية، هل يقبل الآن أن يراها تفاوض “الشيطان الأكبر” مباشرة؟ وهل يصمت بعدما قطع أذرع إيران في سوريا ولبنان والعراق وغزة، ليُترك الرأس يفاوض وينجو؟ نتنياهو يدرك أن لحظة التفكيك الحالية هي اللحظة الأضعف في مسار المشروع الإيراني، وأن تأجيل الضربة قد يسمح لطهران بإعادة تموضع أدواتها من جديد، تمامًا كما فعلت بعد الاتفاق النووي في 2015.

في تقديره، هناك ثلاثة مسارات لا رابع لها: إما ضوء أخضر داخلي يُمنح للموساد لتنفيذ عملية نوعية موجعة داخل إيران، تعيد ترتيب المشهد وتفرض سقفًا جديدًا للمفاوضات، أو أن يذهب لعملية عسكرية جوية مستقلة تستهدف منشآت نووية كما فعلت إسرائيل مع مفاعل تموز في العراق عام 1981، أو أن يستثمر الضغط لتحفيز ترامب على التصعيد، لا التفاوض، خصوصًا في ظل وجود تحالف بدأ يتشكل بهدوء بين تل أبيب وعدد من العواصم الإقليمية.

لكن هنا أيضًا تظهر عقدة المصير: ماذا عن مستقبل التطبيع السعودي – الإسرائيلي؟ لقد كان التهديد الإيراني هو الركيزة المركزية في بناء هذا الجسر التطبيعي، والآن، إذا تم احتواء إيران باتفاق جديد، فإن تلك الركيزة تتلاشى، ويصبح من الصعب تسويق التطبيع داخليًا في السعودية أو في الخليج عمومًا، فالتطبيع لا يقوم على العواطف، بل على المصالح المشتركة، وإذا انتفت الحاجة إلى اصطفاف ضد خطر مشترك، فإن الرغبة في فتح الأبواب تصبح أقل إلحاحًا.

من هنا تحديدًا، يصبح ضرب إيران خيارًا لا يتعلق فقط بالأمن الإسرائيلي، بل بمستقبل التحالفات في الشرق الأوسط، وإذا كانت حماس بدأت بتسوية، وحزب الله يتهيأ لصفقة داخلية، والحوثي ما زال يناور بانتظار إصابة رأسه على غرار الآخرين، فإن الجميع ينتظر القرار الأصعب: هل يقرر نتنياهو أن الوقت قد حان لضرب الرأس؟ وهل تكون الضربة الأخيرة قبل أن تغلق النافذة الأميركية وتعود لعبة المصالح لتُدار على إيقاع ليّن؟

إيران لم تتغيّر، بل غيّرت تكتيكاتها مؤقتًا، والصفقات التي تُطبخ على نار الاتفاقات الثنائية قد تنتج مكاسب مؤقتة، لكنها لا تنسف مشروع الولي الفقيه، بل تمنحه فرصة أخرى لإعادة إنتاج ذاته، لهذا، فإن في كل تأخير في الحسم يُمنح لطهران فرصة للبقاء، ولأدواتها فرصة لتجديد خطاباتها.

في لحظة كهذه، لا شيء يبدو واضحًا سوى أن خامنئي تجرّع نصف الكأس، وأن ترامب يلوّح بالكأس الثانية، أما نتنياهو، فهو يقف الآن أمام مرآته الطويلة،

ويتساءل إن كان سيترك منجزه التاريخي يضيع في زحمة الصفقات، أو أنه سيقرر أن يكتب نهاية الرواية، بنفسه، وبصاروخٍ لا يحتاج إلى إذنٍ من أحد حتى وإن كان دونالد ترامب.