كتابات وآراء


الأربعاء - 19 مارس 2025 - الساعة 09:28 م

كُتب بواسطة : عبدالناصر المودع - ارشيف الكاتب



من مظاهر التخلف الحضاري في اليمن، جهل الشعب، وبالتحديد غالبية النخب، لطبيعة الكارثة التي حلت بهم من حيث: ماهيتها، والمتسببين فيها، والحلول الصحيحة لها. والغريب في الأمر أن هناك شبه إجماع بأن المشكلة هي الحل.

ولتوضيح ما قد يبدو لغزا، سأشير بإيجاز شديد في هذه المقالة إلى خلاصات، أو أحكام لأفكار عديدة تحتاج كتابات واسعة لتوضيحها، وهو ما أنوي عمله في المستقبل القريب.

في البداية سأشير إلى طبيعة المشكلة اليمنية الحالية التي بدأت في التصاعد منذ عام 2011، وأصبحت كارثة بكل المقاييس فيما بعد. ففي ذلك العام اندلعت، ما يسميها البعض، ثورة ويسميها البعض الأخر أزمة أو نكبة، احتجاجات تطالب بتنحي الرئيس السابق علي عبدالله صالح، الذي كان في الحكم لمدة 33 سنة تقريبا (12 سنة قبل الوحدة و 21 سنة من بعد الوحدة). وكانت الأهداف الرئيسية لتلك الاحتجاجات في حينها، تتلخص في إصلاح وتطوير النظام السياسي، ليكون أكثر ديمقراطية وأقل فسادا.

غير أن الأهداف تغيرت بعد خروج صالح من الحكم، وتم الترويج بأن المشكلة لم تعد متعلقة بطبيعة النظام السياسي، وإنما في طبيعة الدولة نفسها. ووفقا لذلك، بدأت الكثير من الأفكار والخطط الجاهزة التي أعدتها أقلية خبيثة في الظهور بشكل تصاعدي.

وخلاصة تلك الأفكار مبنية على فكرة شديدة الخطورة ومدمرة مفادها: أن وحدة الدولة اليمنية هي مشكلة، وأن الحل في تقسيمها. وتمحور حل التقسيم بصيغتين: الصيغة الانفصالية، والصيغة الاتحادية، ورغم الاختلاف الشكلي بين الصيغتين، إلا أنهما تنطلقان من فرضيات متشابهة، كما أنهما تساندان بعضهما البعض في أكثر من موقع.

تُـشخص صيغة التقسيم الانفصالية المشكلة اليمنية بأنها ناتجة عن قيام الوحدة اليمنية عام 1990، ووفقا لذلك، فإن الحل الوحيد والمركزي للمشكلة اليمنية يتمثل في إنهاء هذه الوحدة، والعودة إلى حالة التجزئة التي كانت سائدة قبل ذلك. وأكثر المتحمسين للصيغة الانفصالية سكان منطقة المثلث، كونها ستُـعيدهم طبقة حاكمة للجنوب، بعد أن خسروها بعد حرب 94، وأقلية جنوبية من المناطق الأخرى، وبقايا الحزب الاشتراكي، الحالمين بالعودة لحكم الجنوب.

في المقابل تُــشخص صيغة التقسيم الاتحادية المشكلة اليمنية، بأنها ناتجة عن النظام المركزي، ووفقا لها؛ فإن حل مشكلة اليمن ينحصر في إعادة تشكيل الدولة وتقسيمها إلى إقليمين أو عدد من الأقاليم، ضمن نظام يشبه في مفرداته النظام الكونفدرالي. فالكثير من فقرات مشروع دستور عبدربه -الذي يتوهم الكثير من اليمنيين بأنه وثيقة الخلاص السحرية- هي فقرات لاتحاد كونفدرالي، وليس فدرالي. إضافة إلى ذلك يطالب الكثير من دعاة الدولة الاتحادية بأن تتمتع الأقاليم بالسيادة الكاملة، والسيطرة الكُلْيَة على الموارد الخاصة بالإقليم، والحق في الانفصال والاستقلال في المستقبل، وتلبية هذه المطالب لا تتم إلا في نظام كونفدرالي.

وخطورة صيغة التقسيم الاتحادية، أنها تلقى تأييدا واسعا داخل اليمن؛ فكل الأحزاب والقوى السياسية اليمنية، تقريبا، ومعظم النخب الفكرية والاجتماعية ترى فيها الحل الوحيد والأمثل للمشكلة اليمنية. يضاف لهم، تأييد العالم الخارجي، وبالتحديد الدول المؤثرة في الشأن اليمني والأمم المتحدة، والمنظمات التي تنشط تحت لافتة السلام. وقد أصبحت هذه الصيغة معتمدة في أكثر من قرار لمجلس الأمن، واستنادا إليها يتم رسم خريطة الطريق المعتمدة للسلام المزعوم في اليمن.

ولجعل مشاريع التقسيم شرعية ومقبولة، داخليا وخارجيا، تم إنتاج أدب ضخم، بميزانيات هائلة، وتحت عناوين جذابة من قبيل: مظلومية الجنوب، وبعض المناطق، وتهميش بعض الفئات. وتم إيهام اليمنيين بأن مشاريع التقسيم المختلفة ستحقق العدالة والازدهار في حال تنفيذها. ولهذا أيد الكثير من السذج هذه الفكرة الخبيثة وتحمسوا لها.

وكل ذلك تم برعاية من قبل الرئيس الكارثة هادي، ومن خلفه، وتماهي كل الأحزاب اليمنية مع الفكرة، بما فيها تلك التي كانت ترفضها، كحزب الإصلاح، وبعض أجنحة حزب المؤتمر. ونتيجة لذلك؛ تم خلق إجماع زائف لفكرة (التقسيم هو الحل) وأصبحت هي الحل الوحيد والمعتمد من الجميع تقريبا، ولم يعد من المقبول الحديث عن الدولة الواحدة المركزية، بعد أن تم شيطنتها.

كان من الممكن رفض فكرة التقسيم بقليل من الدراية، والخيال السياسي، والحس الوطني العادي، حين تم الترويج لها قبل وأثناء "مؤتمر موفنبيك"؛ فهشاشة الدولة اليمنية الناتج عن لا مركزيتها السياسية، وقوة المشاريع الطائفية وما تحت الدولة، وكثافة التدخلات الخارجية، تستدعي زيادة السيطرة المركزية، وليس العكس.

حتى الآن لا زال الناس واقعين تحت وهم فكرة التقسيم هو الحل، على الرغْم من المعاناة التي يعيشونها نتيجة التنفيذ الفعلي للفكرة؛ ومرد ذلك، نابع من الضخ الإعلامي الهائل والرعاية الرسمية والحزبية والخارجية لهذه الفكرة الخبيثة، حيث يتم إيهام اليمنيين بأن معاناتهم ستنتهي حين يتم التقسيم الرسمي. فالانفصاليين الجنوبيين يوهمون سكان المحافظات الجنوبية بأن معاناتهم ستنتهي حين يحدث الانفصال بشكل رسمي؛ فيما الانعزاليين الجهويين يوهمون اليمنيون بأن مشاكلهم ستنتهي حين يتم تقسيم اليمن إلى أقاليم. والحقيقة التي يجب أن يدركها جميع اليمنيين، أن ما يعانونه وسيعانونه في المستقبل هو ناتج عن تطبيق فكرة التقسيم، لأن هذا التقسيم سلبهم حقهم الأساسي في أن يكون لهم دولة ذات سيادة؛ فيما التقسيم الفعلي والرسمي، سيلغي الدولة وسيسلمها للأجانب ليديروا الكيانات المتكاثرة الناتجة عنه.

وما جعل فكرة التقسيم تزدهر وتنمو بالشكل الذي أصبحت عليه، غياب أي فكرة مناهضة لها، فليس هناك من دولة خارجية، أو قوة سياسية محلية، أو منظمة أجنبية تدعم مشروع بقاء الدولة اليمنية بحكومة مركزية واحدة، فهذه الفكرة أصبحت مشيطنة ومنبوذة، ويتم تصويرها بأنها خروج عن الإجماع الوطني ورؤية العالم الخارجي للحل. ولهذا تراجع المعارضين العلنيين لفكرة التقسيم، وأصبحوا أقلية نادرة وفي تناقص مستمر. فلم يعد من المسموح ، لشخص أو تنظيم، رفض فكرة التقسيم، لأن مصيره سيصبح الفصل من الوظيفة العامة، كما حدث مع السفير علي العمراني، أو العزلة والنبذ، من الجميع، كما يحدث مع كاتب هذه السطور.

فكرة (التقسيم هو الحل) هي الفكرة المركزية التي أنتجت الكارثة الحوثية والحرب والتدخل الخارجي، فلولاها لتم احتوى الحوثيين في رقعة جغرافية صغيرة، وربما القضاء عليهم، ومن ثم لم تكن هناك من مبررات للحرب والتدخل الخارجي. ولهذا فأن الخطوة الأولى لإنهاء الجائحة الحوثية وتحقيق السلام والاستقرار في اليمن لن يتم إلا بتجريم فكرة (التقسيم هو الحل) وتجريم كل من يطالب بتنفيذها أو يروجها، وهذا التجريم هو الفعل المعتاد الذي تمارسه كل الدول الطبيعية، ولا سيما تلك الشبيهة بوضع اليمن. فأي دولة عربية، كبيرة أو صغيرة، ستنهار لو تم اعتبار أن وحدتها هي مشكلة وأن الحل في تقسيمها.

ولإدراكي لخطورة هذه الفكرة، تصديت لها منذ أن بدأت ملامحها تلوح في الأفق. حيث صنفت مشاريع الفدرالية والانفصال بأنها مشاريع فوضى مكتملة الأركان. وقد قمت بهذا الجهد، دون إي دعم من أي جهة، وعلى العكس من ذلك، عانيت وأعاني من العزلة والنبذ، وما هو أكثر من ذلك. وما يجعلني مستمرا في هذه الجهود يقيني بأنها ستثمر ولو بعد حين، لسبب بسيط جدا، وهو صدقها وضرورتها، وزيف مشاريع التفكيك وخطورتها.

أن كل اليمنيين، باستثناء القوى الانعزالية، وتجار الحروب وتجار السلام والأزمات، سيدركون بعد أن يدفعوا أثمان باهظة بأن فكرة التقسيم هي فكرة خبيثة شيطانية، وأن حل مشكلة اليمن في وحدتها وليس في تقسيمها.